عبد الإله بلقزيز
نهاية الداعية
الممكن والممتنع في أدوار المثقفين
تأليف عبد الإله بلقزيز
ط1، 2000، عدد الصفحات (176) صفحة
الناشر: المركز الثقافي العربي. الدار
البيضاء.
عرض:
عبد المحسن منصور الخميس.
ليس هذا الكتاب هجوماً على المثقف كما قد
يُظَنُّ – هكذا يقول المؤلف عن كتابه – بل هو دفاع صادق عنه ضد الداعية أو بقاء
الداعية فيه.
فالمؤلف يرى أن ثقافة العرب المعاصرة كثر
فيها الدعاة من المتقولين المتخرصين بما يفيض عن حاجتها لشطح القول والنظر، لذا
يطالب الداعية بأن يصمت وينسحب من المشهد بهدوء كي يفسح المجال للمثقف الباحث.
يتضمن الكتاب أربعة فصول، يعقد الفصل
الأول للحديث عن مفارقات اللاتوازن في وعي المثقف بما فيها الأمراض التي يعاني
منها ويخصص الفصل الثاني للمراجعة النقدية لحصاد المثقف المر، وأثر الإرهاب الفكري
والأساطير في إنتاجه.
أما الفصل الثالث فيتضمن إجابة لتساؤل
يطرحه المؤلف مفاده:
هل انتهى دور المثقف بينما يخصص الفصل
الرابع والأخير للمطلوب من المثقف من الالتزام، للتخلص من دور الداعية، ويسبق هذه
الفصول الأربعة مدخل للكتاب، يشير فيه المؤلف إلى علاقة المثقف بثلاث سلط، هي:
المعرفة والجمهور والسلطة، مفصلاً القول في أصناف المثقفين تجاه ذلك، بما في ذلك
مثقف اليوم والأمس، ليؤكد في نهاية هذا المدخل بأن المثقف العربي ما زال يتقمص دور
الداعية – بالرغم من التحول المبشر في مكانته – ويسند لنفه دوراً تتخطى قدرته
الفعلية على الإنجاز، غير معترف بالهزيمة.
مفارقات اللا توازن:
بدأ الجيل الحالي من المثقفين الأقل
مقدرة على تدوين مساهمته في صناعة حقائق المرحلة، إذا ما قيس بمن سلفه، وهذا
القصور ينسب إلى شروط وجودهم، لا إلى عطب في جهاز صناعتهم، وأي ذلك أنهم ما عزفوا
يوماً عن الصدوع بالرأي في قضايا ونوازل طلب منهم إعمال النظر فيها، ولكن إذا لم
يكن في وسع الدولة بناء مشهد السياسة دون أن يحتل فيه المثقفون المركز المرموق،
فإنها تطالب اليوم بإخراس هذا الثرثار المزعج المنافس.
وللإجابة على تساؤل يطرحه عن مدى مسؤولية
المثقف عما أصابه ويصيبه من تخاذل السلطة معه، يورد المؤلف بعض مفارقات وعيه،
فالمثقف العربي "لا يكف عن تكرار انطواء فعله الثقافي أو الفكري على دور عظيم
في المجتمع والتاريخ"، يستوي في ذلك مثقفو الشرع والمثقفون المهجوسين بتنمية
العمران المدني على اختلاف معتقداتهم، وإذ هم منصرفون إلى مديح وبناء الاعتبار
الذاتي والتباهي بما نالوا من رفعة في المقام تراهم ناكصين إلى نقد عنيف للسلطان
الذي يقيد رسالتهم ويستضعفهم في الأرض كما استضعف الذين من قبلهم.
ومن المفارقات التي يسوقها المؤلف، أن
المثقف ينتدب نفسه لأداء أدوار اجتماعية يعجز عن النهوض بها، وعلة ذلك العجز في
طبيعة عمل المثقف وبضاعته التي يعرضها على الجمهور، ومشكلته ليست في "الأهداف
التي يرسمها لفاعليته، بل في الأدوات التي يتوسل بها لإنجاز تلك الأهداف" مما
يجعله أمام مأزق مستعصي على التجاوز، فالعلاقة بين المثقف والشعب في حالة من
انعدام التفاعل بسبب عامل التفارق الاجتماعي، واللغة التي يتحدث بها المثقف، ولا
يفهمها الشعب، غير مدرك بأنه يتوجه بخطابه إلى مجتمع أمي، إضافة إلى أن الموضوعات
التي تثير اهتمامه لا تقع في سلم أولويات الشعب المنشغل بمشاكل الرغيف وتأمين
العيش وعلى ذلك يؤكد المؤلف أنه ليس في وسع مثل هذه المفارقة أن ترتفع ما دام حقل
الثقافة في البلاد العربية ينطوي على ثنائية، ثقافة النخبة وثقافة الجمهور.
أمراض المثقفين:
"يعرض لأحوال الثقافة من تبدل في
المنازع والمزاج ما يعرض لأحوال الفرد" لذا فأحوال الثقافة من أحوالهم، تصح
ويستقيم أمرها بسويتهم، وتقم بشطح مزاجهم. وبعد تأكيد هذه الفرضية – يعدد المؤلف
أربعة من أهم الأمراض التي تصيب المثقفين، وهي:
1- النرجسية الثقافية:
تعني هذه حب الذات المرضي، وهناك عدد
هائل ممن أصابتهم هذه الحالة، فأضاعت عليهم طريق الانتماء الإيجابي إلى المجتمع
الثقافي. والفرق واضح بين النرجسية الثقافية والاعتداد بالنفس، فالأخيرة فضيلة في
مضمار الفكر، إذ الإقدام واقتحام المجاهل مما به ينهض حال المعرفة ويقوى عددها،
أما النرجسية فهي الحالة التي تفيض فيها تلك الثقة في النفس عن حدودها الطبيعية،
وثمة أعراض مختلفة لهذا المرض منها مديح الذات، وإدمان الانتباه الزائد إلى ما
يكتب عن المثقف، وإبداء الترفع في العلاقة بالآخرين من المثقفين، وأثر هذا المرض
يكمن في فقدان أخص خصائص الفكر والثقافة، وهو النقد والحوار.
2- السادية الثقافية:
وهي ذلك المنزع الجارف فهو الانتشاء
بتعذيب الآخرين، وترجمتها في الميدان الثقافي، فتكون "في صورة سلوك عدواني
تجاه أفكار وآراء آخرين على نحو لا يتوازن فيه المثقف السادي إلا متى التزم
بالتجريح الذي أصاب بت ضحاياه من المثقفين".
3- تعذيب الذات (المازوشية):
"يحتاج كل فكر إلى أن يخضع نفسه
لامتحان ذاتي من حين لآخر، وذلك لتمكينه من تصحيح نفسه، وتصويب آليات عمله، ولكن
يجب ألا يكون النقد الذاتي جلد الذات أو تعذيبها على نحو أليم وجارح، فالمازوشيون
من المثقفين العرب فمرضى يحقرون أنفسهم أشد التحقير، ويشعرون بفقدان الثقة في
الذات التي تعد شرط وجوب للفكر، وفقدانها يكاد يخرجهم من عداد المثقفين.
4- الفوبيا الثقافية:
"من أشد العلامات دلالة على اهتزاز
التوازن لدى قسم كبير من المثقفين العرب، الميل إلى التعبير عن حالة حادة من
الرُّهاب الفكري من خطر معلوم أو مجهول المصدر في اللحظة التي يجري فيها...
الإفصاح عن بطولة مُدَّعاة تفيض عن حاجة الثقة في النفس. "ومن شواهد هذه
الظاهرة المرضية فكرة المؤامرة ف بالوعي العربي المعاصر، والمنزع العصابي الحاد
إلى رفض ثقافة الآخر.
الحصاد المر للمثقفين العرب.
تاريخ المثقفين العرب الحديث يحتاج إلى
إعادة تدوين وإعادة كتابة، كتابة نقدية، وهذا يتطلب فتح ورشة عمل فكرية، لإنجاز
مراجعة نقدية صارمة للكثير من الأخطاء الكبرى التي ارتكبها المثقفون العرب، ويقع
ضمن تلك المراجعة نقد الأوهام والأساطير التي صنعها أولئك المثقفون عن أنفسهم وعن
قيمة بضاعتهم، "والشريحة المعنية بهذه المراجعة هي التي انتدبت نفسها منذ قرن
ويزيد للدفاع عن مشروع النهضة والتقدم".
وملف هذه المراجعة يتضمن ثلاث ظواهر تغري
بالنقد، وهي درجة التراكم المعرفي لدى المثقفين العرب، ومضمون الإنتاج الفكري
لديهم، ثم أنماط توظيف ذلك الإنتاج في الحياة العامة، فالفكر العربي يعاني من فقر
معرفي مزمن يؤثر على قدرته على الإنتاج والإبداع، كما أن المثقفين العرب أنتجوا
ممارستهم الفكرية بما يجافي دورهم المفترض، حيث تخلو عن وظيفة التنوير والإبداع،
إلى ممارسة وظيفة التبرير والتسويغ. مما أنتج ثقافة التبرير "التي لا يكون
وازعها المعرفة، بل خدمة مصلحة غير معرفية".
من العطف في الإنتاج إلى إنتاج العطب في
الوعي المحارب:
الفاصل في الإرهاب الفكري بين العدوان
والنقد صعب البيان، فأفعاله تلبس لبوساً ثقافياً، لكنها تنتمي إلى السياسة،
والإرهاب الفكري ليس نوعاً من النقط، "فالناقد شخص يعلن اعتراضه بوسائط
حضارية كالمناظرة والحوار، أما الإرهابي فيشهر الاعتراض نصلاً من الكلمات
الباغيات، يتجه إلى التعريض بالمخاطب في طويته ودينه ووطنيته" يعيش العقل
الثقافي بعضاً من المشاهد المرعبة لهذا الإرهاب الثقافي من خلال مقالات التخوين
وفتاوي التكفير، ولا يلقي المؤلف اللوم في صنع هذا الجحيم الثقافي إلى الأصاليين
وحدهم الذين عرف عنهم تخربهم التراثي وتسفيه فكرة الحداثة، بل يرى أن الحداثيين
ساهموا في إنجاب هذه "الكربلاء الثقافية" من خلال سيل المقالات الحداثية
المغمورة بأفكار ومفردات العنف والعدوان ضد الأصولية، ويرجع المؤلف أسباب وجود هذا
الإرهاب إلى سببين، أولاهما معرفي، ينتسب إلى جملة الأوهام التي تؤسس أيديولوجيا
المتكلم:
أيديولوجيا مالك الحق في الكلام، نيابة
عن الجماعة، معتقدين أنهم خصوا بحق الكلام والرأي، وعلى الآخرين فقط واجب الإصغاء،
أما ثاني تلك الأسباب فسياسي اجتماعي، ذلك أن ملاك الحقيقة من المثقفين العرب – من
إسلاميين أو علمانيين – لا حيلة لهم في حربهم مع بعض إلا استجداء دعم غير ثقافي من
السلطة أو الجمهور.
يعبر هذا الإرهاب عن نفسه من خلال ظاهرة
الحرب الأهلية الفكرية، عندما تخرج فعل الإرهاب من الخير الفردي لتجعله فعلاً
جماعياً، "ويمثل الجدل الصاخب اليوم بين دعاة الأصالة ودعاة الحداثة العنوان
الأبرز لهذه الحرب الأهلية الفكرية الطاحنة التي تمزق الوعي الغربي المعاصر"
ولتصحيح مسار الوعي لا بد من مراجعة ونقد كل شيء مما ركن المثقفون العرب إلى
مسلماته، ولإنجاز مشروع المراجعة الشاملة لا بد من نقد أوهام المثقفين العرب
وأساطيرهم، وأهمها أسطورة الدور الإرشادي، وأسطورة الدور الرسولي، وأسطورة الدول
العلمي المحايد.
خطاب التوبة:
عندما تعرضت مؤسسات حركة التحرر الوطني
العربية للتصفية المادية من بين جملة كثير من المؤسسات والحقائق – انقسمت شريحة
المثقفين التي التزمت طويلاً خط التحرر الوطني، "فبعضهم يشايعها على ما هو
عليه أمرها من سوء حال، وبعضهم يشيعها إلى دار البقاء فيرتجل مقالة من الشماتة
فيها، وبعض ثالث يزيد عليها قليلاً فيعلن توبته بتقديم خبرته للسلطان ابتغاء
مرضاته"، وهذا الضعف الأخير هو الذي تناوله المؤلف بشيء من الدراسة، لأنه
يمثل ظاهرة مرضية تأكل من أخلاق الثقافة العربية، فهذا التائب لا يكتفي بإشهار نصل
الفتك بماضيه، أو الاعتذار عن دور ما، بل يجند قدراته وخبرته لمصلحة رجال المرحلة
بكثير من الادعاء وقليل من الحياء، وإذا كان للاقتصاد دور في ذلك فإن هناك ثمة
أمور تتعلق بعامل الأخلاق والقيم لا سبيل إلى تجاهلها، وإلا فما معنى أن يحتفظ بعض
من أفقر المثقفين برأسماله الأخلاقي شرف الكلمة، ويؤكد ذلك "كثيراً ممن
يتصدرون اليوم مشهد التوبة في حالٍ من اليسر تحميهم من أي خوف من المجهول.
هل انتهى دور المثقف:
بعد وصف حال الثقافة والمثقفين وأدوارهم
يعقد المؤلف فصلاً مهما يحمل تساؤلاً مفاده: هل انتهى دور المثقف في ظل ما آلت
إليه حاله، فيشير بداية إلى أن إصابة نظام ما بالشلل ليس مدعاة للاعتقاد بأن
الإصلاح غير ممكن، فالأمر متعلق بمستوى العطب وإمكانية معالجته، إن المجال الثقافي
يعاني أزمة عميقة، من علامات تضخمها تلك الحرب الأهلية الفكرية بين تيارات تسربلت
بأنواع العتاد، على نحو أهدرت فيه كثير من القيم مثل الحوار والإصغاء، وأيضاً
"تنامي حالة عامة من القلق في أوساط المثقفين من جراء الشعور بعجز منظوماتهم
عن تقديم إجابات مقنعة عن المسائل التي يطرحها تطور المجتمع والثقافة" مما
يدفع بعضهم إلى الفروق عن الإنتاج، ويدفع آخرين إلى بهلوانية غير محسوبة في مشهد
من التنقل من موقع إلى آخر، تختلط فيه الملهاة بالمأساة، ولكن هذا القلق علامة
صحة، فهو مدخل طبيعي إلى السؤال والنقد، ونقيض للاطمئنان الأبله الذي يقود إلى
التحنط.
إن التساؤل السائد لدى المثقفين العرب
صبغته: ماذا تبقى من دورٍ للمثقفين، "فهناك حقيقتان تضعان مكانة المثقفين
التقليدية في ميزان المراجعة، أولهما التداعي الذي أصاب مركزه في المراتبية
الاجتماعية وفي سلم القيم وثانيهما تداعي قيمة بضاعته أمام منتجين جدد" مما
جعله يعيش تهميشاً اجتماعياً واقتصادياً وتهميشاً ثقافياً، من فقدان لمركزه الأثير
في المراتبية الاجتماعية الجديدة، وانهيار لوضعه الاقتصادي والمعاشي على نحو لا
سابق له، واستغناء عن خدماته المعرفية التي تبدو غير ذات جدوى في سوق القيم
الرمزية، التي لم تعد تطلب الرأي، بل أضحت تطلب المعلومات، التي باستطاعة جميع الناس
الحصول عليها دون اللجوء إلى المثقفين.
إن الحاجة ماسة إلى نقد الأساطير
السياسية والاجتماعية التي تعيش عليها الدولة والجماعة الوطنية، وأسباب ذلك عديدة،
فالسلطة تميل إلى إنتاج أفعال مختلفة من القهر، بسبب حاجتها الذاتية لممارسة
وجودها المادي ولمؤسسي، ويشمل ذلك السلطة الحزبية، كما أن المجتمع العربي يعبر عن
أعلى أشكال التخلف في التفكير، وترتع فيه أعلى مظاهر التقهقر عن سوية العصر، وهذا
يولد حاجتين أولاهما الحاجة إلى نقد نزعة تأليه السلطة، التي تفتقر إلى الشرعية
السياسية، مما يجعلها تضفي طابع من القداسة على نفسها، ويكمن التأليه في تغول
السلطة في وجه المجتمع، وانفلات غرائزها الوحشية التي توزع الناس بين موالين
ومغضوب عليهم، وثانيهما الحاجة إلى نقد نزعة تقديس الشعب، الذي يعيش حالة من
التأخر، من جراء تراكم تاريخي سلبي ولكن هذا ليس مبرراً للتهاون في نقد ذلك التأخر
والنضال ضده بدعوى أنه غير مسؤول عنه، من جراء المقارنة بين ما يعتقدون من أنهم
ضمير الجماعة وأصحاب رسالة وبين ما استقرت عليه حصيلة الواقع الموضوعية يسقط كثير
من المثقفين صرعى الشعور بالإحباط والمرادف فحجم الفارق بين الحلم والحقيقة هائل،
تنهل هذه المرارة من مصدرين هما معاينة الواقع الاجتماعي، ومعاينة المؤسسة التي
يفترض أنها نشأت كي تقدم بدائل نقيض من ذلك الواقع، فهذه المؤسسات لم تريد أن يكون
المثقفون "جزءاً من التحف والأثريات المرغوب فيها لاستكمال المشهد ولمباهاة
الخصوم بأنها تحوز ولاء أهل الرأي"، ولكن ما هو موقف المثقفين من ذلك؟ إن
قسماً منهم لا يشعر بضير في أن يؤجر قلمه للدفاع عن هذه المؤسسة، وحال قسم آخر
منهم مختلفة، وهم الذين أبوا أن يضعوا دماغهم رهن مشيئة صاحب الشأن، وحرصوا على
التمسك بأداء دورهم كمثقفين، أو اللوز بالصمت – في أقل الأحوال – أمام نوازل لا
تقبل التجويز والتسويغ، غير أن فئة من هؤلاء الرافضين للانضواء تحت لواء المؤسسات
وشيوخها لا تملك الجلد الكافي لتصريف نقدها المباشر لما يجري تحت سمعها وبصرها
فتؤثر – بدلاً من ذلك – الانسحاب إلى ذاتها، واللجوء إلى عالم الأدب والإبداع،
ويعد المؤلف ذلك تصرفاً سليماً واحتجاجاً حضارياً جميلاً على بربرية المؤسسة.
المثقف العربي أمام المساءلة النقدية:
يطلب من المثقفين كثيراً الخضوع
لاختبارات محاسبة لا ترحم من قبل الذين يتوجه إليهم بالخطاب على سبيل التنوير
والوعظ، والسلطة والجمهور في عدادهم، فالجمهور الذي لا ينتمي إلى ميدان السلطة
يبدي ملاحظات نقدية على المثقف تتعلق بنخبويته وتحزبه وضعف جرأته على السلطة
وتحاشي مواجهتها.
وحين يرى المؤلف أن كثيراً من ذلك النقد
لم يجانب الصواب، فهو يرى أيضاً أن بعض النقد ركب نتائج تفوق في الحدة مقدمات ذلك
النقد، ومن أهمها الخلوص إلى القول بأن دور المثقفين انتهى، وانتهت الحاجة
الاجتماعية إليه، بعد كل الإخلاف الذي أصابه. والجميل في هذا الكتاب أن المؤلف بعد
أن سرد دعاوى المتهمين والناقدين تولى الدفاع عن المثقف دفاعاً منهجياً، لا
انتصاراً أيديولوجيا له، فهو في نظره يستحق الحساب النقدي العسير بل يؤكد على أن
هذا الدفاع دفاع عن الموضوعية في ممارسة النقد.
ما بعد الداعية:
يشير المؤلف في بداية الفصل الرابع –
خلاصة الكتاب – إلى أن الأوان لم يفت بعد لبعث الحياة في رسالة الالتزام التي
حملها المثقف يوماً، "وأول الخطو نحو ذلك أن يكف عن تضخيم دورة التاريخي، وأن
يقلع عن عادة انتداب النفس لأداء مهمات أعظم من حقل الثقافة ذاته". فالمشكلة
تكمن في أنه "وضع نفسه دائماً في موضع من يملك حق إملاء الواجب على
الجميع" بينما المطلوب منه أن يكون مثقفاً فحسب، والالتزام المطلوب اليوم من
المثقفين يتمحور في ثلاثة أدوار، هي:
1- التنوير:
ويتمثل في الدفاع عن جملة من المبادئ
الحيوية لكل تقدم اجتماعي ليس من خلال التبشير بهذه المبادئ في لغة دعاوية مجموعة،
إنما في تقديم إنتاج تراكم معرفي تنويري، وهذا التراكم الفكري هو الذي يستطيع آراء
هذا الدور في مجتمع ما تزال بناه الثقافية والاجتماعية راكدة.
2- الاستقلال الذاتي:
للمثقفين رسالة اجتماعية خاصة هي الدفاع
عن حرية التفكير والرأي ضد صنوف المنع، ويرفع من درجة الحاجة إلى هذا الدور اليوم
أمران أساسيان:
أولهما ما تشهده حرية الرأي من محنة،
وثانيهما ما يعرفه استقلال المجال الثقافي من معاناة، فهناك تضييق حرية الرأي،
وهناك تهميش يتعرض له الثقافي أمام المنزع التوسعي للسياسي.
3- السيادة الثقافية:
يجد المثقفون اليوم أنفسهم مع تحد كبير
وهو حماية الأمن الثقافي من مخاطر الاستباحة الخارجية (الغزو الثقافي)، والفارق
واضح بين الغزو الثقافي والانفتاح الثقافي، "وهو الفارق بين علاقة ندية بين
ثقافتين يطبعها الإنصات المتبادل والاعتراف المتبادل وتنمية حوار خلاق.... وبين
علاقة دونية يلتزم فيها المسكون بشعور النقص. بواجب الإصغاء إلى خطاب المتفوق في
المنافسة الحضارية" وإذا كانت تلك الحماية من واجب الدولة فإن على المثقفين واجب
النهوض بهذا الدور.
وبعد أن يتحدث المؤلف عن المثقف العقائدي
والمثقف النقدي، ويعقد مقارنة بينهما، وبعد أن يطرح تساؤلاً عن إمكانية آراء
المثقف وظيفة معرفية دون الالتزام بموقف حزني، ويتحدث عما يجلي هذا التساؤل يقرر
المؤلف أنه قد "آن الأوان ليعي المثقفون أنهم أهل الممارسة دور حقيقي في
مجتمعاتهم بعيداً عن أوهام الالتزام غير المعرفي، وأن يتحرروا من وهم صناعة
التاريخ من بوابة السياسة" فقبل قرن ونصف بشر كارل ماركس المثقفين بدور عظيم
جديد: تغيير الواقع، مؤاخذ الأجيال الماضية على الاقتصار على تفسيره، ولكن مهمة المثقفين
اليوم ليست – كما يراها المؤلف – تغيير العالم بل فقط تفسيره.
ويختم المؤلف كتابه بطرح تساؤل عن نوعية
الالتزام المطلوب، ثم يجيب عليه مشيراً إلى خطأ "من يعتقد أننا على أعتاب عصر
تلتقي فيه الحاجة إلى المثقفين" ويغذي هذا الاعتقاد "معاينة مقدار
الإخفاق الذريع الذي مني بت الادعاء الرسولي – الخلاصي للمثقف ومن معاينة درجة
الفاصل بين حصاد ذلك الادعاء وبين النجاحات الهائلة التي تحققت في ميدان المعرفة
والمعلوماتية" ويؤكد المؤلف على أنه بات على مثقف اليوم أن يعيد النظر في
معنى الالتزام عنده، وأن يتخلى عن أحلامه الامبراطورية "وباختصار في أن يكون
ما ليس ممكناً له أن يكون" فالمؤلف يرى أن الدور الحقيقي المطلوب من المثقفين
هو تفسير العالم، "أما التغيير فهو من مشمولات قوى اجتماعية أخرى غير
المثقفين ومجاله الدولة والسلطة والاقتصاد".
لم يتعرض المؤلف بشكل واضح لدور المثقف تجاه
ما يتعارض مع مبادئ دينه، كما لم يتضح من سطور الكتاب ما إذا كانت المطالبة
بالتغيير بالحوار لا العنف. تعد من التغيير الذي ليس مطلوباً من المثقف القيام بت
أم التفسير الذي هو كل ما هو مطلوب منه.
وختاماً فإن الكتاب يبدد سحب الحيرة التي
تسكن في عقول الشباب المندفع عن موقف المثقفين وحال الثقافة الذي يراوح مكانه،
ويجيب على كثير من التساؤلات الحادة عن بعض المواقف الغامضة التي يتنقل بينها
مثقفي الأمة، ولعل من لم يقرأ الكتاب أو يقتنيه يدرك أهمية قراءته بعد هذا العرض
السريع والمخل للمضمون المتميز للكتاب.
|