"الذهاب إلى العيد... بين المأمول والمتحقق"
قراءة نقدية في المجموعة القصصية
(للصفيح بريق خاص).. للكاتبة شيماء زايد
قراءة: محمد سلطان
غلاف المجموعة .. للصفيح بريق خاص |
(للصفيح بريق خاص).. عبارة تصدرت غلاف داكن من تصميم الكاتبة, وهذا يأخذنا إلى التأكيد على بعض النقاط التي جاءت في القراءة, اللهم إلا من بعض الألوان الباسمة, قد تتلخص في لونين يحملان لغة العيد والبهجة المأمولة, نعم.. إنه العيد الذي طال انتظاره, العيد الذي ذهب بكامل أبهته الطفولية والإنسانية معا, بأتم ما يمكن وصفه – على حد وصف الكاتبة – هو المكان وليس المناسبة التي تأتي عقب الفريضة التي فرضها الله على عباده, تأتي كمنحة ربانية تتجلى بها الأكوان لترسم إلى عالم الطفل أماكن مازالت محفورة في ذاكرته؛ قد يعتبرها هي العيد بلا شك, صدقت الكتابة حينما وصفته في العبارة التالية بالمكان "الذهاب إلى العيد" وكأن المناسبة التي أهادها الله إلى عباده ومخلوقاته موجودة في مناطق بعينها, لا يمكن أن تتواجد في أخرى, وهذا على أية حال هو شعورنا جميعا, لم يكن محض اختلاق أو خيال من الكاتبة, بقدر ما هو واقع ملموس ومحسوس, ملموس في النواحي العدة لمناطق من شأنها خلق البهجة والارتياح الطفولي (كالأرجوحة, والعربة الخشبية, والألعاب البلاستيكية جميلة الألوان سيئة الصنع, الأساور الصفيحية اللامعة الرخيصة... الخ).. ومحسوسة هي الآن.. نفتقدها لكن نستشعر نكهتها الخاصة في مضمار هذه البهجة, حتى وإن كان تعاقب السنوات أضفى عليها ضباب خفيف, إلا أنها مازالت لحظة ساكنة في القلب والصدور, حتى وإن جاء البديل بأساور ذات صبغة عالمية, إلا أنها تبقى وحيدة داخل المضمار الفريد, هي بطلة العمر, مهما توافدت على الرأس انشغالات حياتية مرهقة, إنها قوة انفعالية تسترجع نفسها بقوة لطالما كانت هي العامل الأكيد لفرض صبغة أكيدة لا يمكن إزالتها بأي حال من الأحوال.
للوهلة الأولى تأخذك المعتقدات والأفكار لزجك داخل عالم من اللحظية المؤقتة, الدائمة بعض الشئ, ذاك الذي قبضت عليه الكاتبة حتى السطور الأخيرة في المجموعة, تناولت من خلالها بعض المواقف العابرة بكثافة وتكثيف مرض للقارئ, لا هي بالمسهبة المملة, ولا هي بالقصيرة النافرة, فكل قطعة من النصوص أعتبرها مجموعة من "البورتريهات" أو بالأحرى تعبر كل قصة لوحة منفصلة على حدة, كأنك لا تقرأ, ولكن ما أن تدخل إلى أجواء النصوص تكتشف أنك في قاعة عرض, أو معرض لمجموعة من اللوحات المختلفة المقاسات والألوان, فمنها الحقيقي, ومنها المأمول, ومنها الرافض للتحقق, ومنها الذي يأبى على نفسه وعلى القارئ أن يتحقق بالفعل, كما تأخذك النظرة العامة للكاتبة – لو لم تكن تعرفها شخصيا – لتجزم أنها تمارس هذا النوع من الفنون, أو على الأقل فهي هاوية أو مغرمة بفن التصوير أو الرسم, وهنا أتفق مع الأستاذ يوسف القعيد حينما أجمل انطباعه عن كتابة الكاتبة بـ "الرسم بالكلمات".. إلا أنها حينما حاولت الابتعاد عن هذه النعتية والصفة وتغيير مسار الكتابة قليلا نجدها تقترب لا تبتعد, كأنها مصرة على عدم هجرة هذا السلوك الجمالي ويتضح ذلك من خلال قصة "متجر الأقنعة".. ذلك المكان الذي تباع فيه النظرات .. القسمات.. الملامح.. والانطباعات.. وتكثر فيه كل الوجوه.. فمنها الباسمة.. العبوسة.. الزاهية.. الجامدة.. والقاسية.. بالضبط كما سطرتها الكاتبة.. وبالنظر إلى مجمل ما قد جاء من تفنيد وتقسيم نستشعرها متمردة على ذاتها, تعود إلى البناء الأوليّ كأنها لا تريد أن تترك الفرشاة, وتصر على رسم نفس "البورتريهات".. فما المتجر إلا قناع آخر يختبئ تحته معرض اللوحات والسمة الأساسية في تشكيل الكاتبة..
لا نستطيع أن نجزم بأكملية المجموعة على نفس التيمة, فقد نرى بعض النصوص التي أخذت منحى آخر للكتابة, يحمل بين ثناياه بعض السمات التي تضم معها العلاقات الإنسانية, والتخوفات, كما تحمل معتقدات الفرد تجاه مشواره الحياتي, ومدى نجاحه في تحقيق ما تخلله من أمل واجتيازه العثرات, من تفاؤل وتشاؤم, وفرح وثكل, وذلك يتضح أيضا في بعض الأقصوصات المتفرقة.
بشكل عام رأيت المجموعة وثيقة الترابط, يشدها خيط رهيف جدا, كأنها ملضومة بعضها ببعض, ورغم قلة التصوير أحيانا إلا أنها اجتمعت على لغة سريالية ناعمة جدا كما هو الحال في نص (اصنع لي رأسا), فعزز هذا الأمر من بحث القارئ وانتباهه للغة محكمة وسليمة, شاعرية في بعض المواضع, وواقعية إلى حد الحنين للماضي وما به من طفولة ريّضة كما قولها في قصة (للصفيح بريق خاص): "ساحة كبيرة بمجرد دخولها تبحث عيناي عن الأرجوحة الخشبية المتهالكة والوحيدة كذلك. وهناك أرى لوحة النيشان.. بائعي الحلوى. الكثير من الألعاب البلاستيكية رائعة الألوان ورديئة الصنع, والعربة الخشبية التي تحمل بهجتي, أراها هناك تحمل كنزي الكبير.....".
كما تتبدى وتتضح الرؤية الفلسفية المختلطة بوجودية فكرية في بعض النصوص, التي صاغتها في قالب وجودي مائل إلى النظرة الشخصية والمعتقد الفردي, كما هو الحال في قصة (ليس كل إنسان طين).. ونرى أيضا مدى الارتباط الوجداني بالوالدين, ومدى نجاح عملية التأثير والتأثر بشخصيتهما, وإلى أي حد ينجحان في زرع النبتة الأساسية فيه, وكم التمرد الذي يلجأ إليه الفرد أحيانا لعدم تقبله فكرة الأغلال التي تقيده من وجهة نظره, وذلك يتضح جليا في قصة (عندما تتطابق الكفان).
من النصوص التي أعجبتني على المستوى الشخصي كانت تلك الرقعة الفسيحة لمعترك مليء بالاضطرابات, وكيف يكون الانسحاب أحيانا ضرب من البطولة لا الهزيمة, كقولها: "عندما كانت هناك لعبة واحدة تبلغني تمام خطة الفوز.. انسحبت. "في الانسحاب أحيانا شجاعة تفوق المواجهة".. نعم تعتبر قصة (رقعة شطرنج) نمط كتابي حاد, يجبرك على استخلاص حكمة الفرسان حينما تكون المنافسة غير متكافئة.. وكيف يكون للعقل دوره الحكيم في الفوز.
وبنظرة أخرى نرى كيف كان عنصر التكثيف سلاح ذو حدين, فكما أجاد وتسللت الكاتبة دون إرادة إلى الذات القارئة, متخطية كل "المطبات" التي تعترض الكتاب أحيانا من نمطية القصة التقليدية البادئة بمقدمة فحدث فحبكة فصراع وخاتمة حلا للعقدة, لكن هنا نجد في مجمل النصوص استحداث للقصة والأدوات المغايرة, فلا هي على الأسلوبية القديمة التي عرفناها عن جيل إدريس وحقي والسباعي, ولا هي على شاكلة الجيل التالي لهم لأصلان وبهاء طاهر وعبد المجيد, بل أعتبرها الاتجاه الثالث الذي ظهر مؤخرا لتحديث تقنيات القصة وتحرر الكتابة من تلك "المطبات".. وهذا لا يعيب على الكتاب الجدد التجريب على أي حال, لطالما ضمت الأجواء الداخلية للعمل قلب ينبض بروح اللحظة سواء كانت وجدانية, أو واقعية, المهم أن القصة تأخذ مسارها التطوري بتطور الحياة والوسائل, ومن ثم تطور الهموم الكتابية, وعدم الوقوع في فخ التكرار, وذلك يتحسب للكاتبة, لطالما امتلكت الأدوات الفنية التي كانت طيعة لديها, فأجادت توظيفها, أما عن الحد الآخر, فقد أبعدها هذا التكثيف عن لغة الحوار الظاهرة, اللهم في نص أو نصين كانت الحوارية هي المعتمد الأول على بناء العمل, إلا أن ذلك التغافل لم يعيب الأعمال وخاصة أن الحوار لم يكن منعدما تماما في النصوص الأخرى, بل وجدته حوارا خفيا يراه القارئ بسلاسة لكنه لا يمسك به.
كانت اللغة السليمة والتي تعتبر هي الأداة الأكثر مزنقا لكثير من الكتاب, وسيما الجدد منهم وخاصة غير الدارسين للغة العربية, هي الجواد الجامح في مجموعة (للصفيح بريق خاص).. وعلى كل الأحوال فهي مجموعة قوية نابضة بعروق وشرايين القارئ والكاتب معا.. لا تنفصل الهموم, بل تتقاطع الدروب وتتلاقي في نقاط مشتركة.. قلما لا تحدث على الأصعدة الإنسانية.